يعد موضوع حوار الأديان من أكثر الموضوعات المعاصرة بحثا وطرحا ومن ثم اختلافا في وجهات النظر إلى حد التعارض .
ومرجع هذا الاختلاف هو سعة “حوار الأديان” من حيث المفهوم والتناول والأهداف .
فحوار الأديان قد يأتي منصبا على القضايا الدينية التي تختلف فيها الأديان ، مثل قضايا الألوهية في الجانب العقدي ، وقضايا الرسل وقضايا الكتب السماوية ، ومثل قضايا العلمانية وعلاقة الدين بالسياسة ، وقضايا الواقع المعاش وعلاقات الشعوب ببعضها وحرية التعبير والعقيدة .
وقد يأتي للاتفاق على قضايا مشتركة أو مناقشتها ، كمحاربة الإرهاب بكافة أشكاله مثل قتل الأبرياء والمدنيين والمسالمين ، وتدمير المنشآت العامة ، والاحتلال العسكري للدول .
أو منع القتل بكافة أشكاله كالموت السريري والقتل الرحيم والإجهاض .
أو إدانة التطاول على الديانات والرسل والأنبياء والمسائل المقدسة .
كما قد يأتي حوار الأديان لمناقشة مسائل آنية بعينها ، كما لو أقيم مؤتمرا لحوار الأديان يناقش قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد يأتي أيضا لتمرير أهداف سياسية .
أما من نحيث المتحاورين فقد يكون المتحاورون رجال دين يمثلون الأديان المتحاورة ، وقد يكونون أكاديميين ، وقد يكونون ناشطون في المجال الإنساني، وقد يكونون خليطا من هؤلاء .
وقد يأتي حوار الأديان مقصورا على ديانتين سماويتين كالإسلام والنصرانية ، أو ثلاث ديانات سماوية ، أو أكثر من ذلك بإدخال بعض الأديان الموضوعة .
كما قد يقتصر حوار الأديان على إقليم معين أو بلد معين أو دوليا عاما .
هذه التنوعات هي ما تخلق البلبلة في الرؤى والتناول ، مما قد يحدو بالبعض إلى رد حوار الأديان برمته ، أو قبوله برمته ، أو الوقوف وقفة المتوجس المرتاب .
والناظر بهدوء في قضية حوار الأديان يجد أنها قد تكون مفيدة في هذا العصر المخيف ، بل قد تشتد الحاجة إليها إلى درجة الوجوب ، بعد أن طغت الآلة على الإنسان مؤخرا ، وابتلع الجشع المادي النقاء الروحي ، وتجرأ العقل على غيبيات الكون ، وتطاول الإنسان على خالقه .
الغرب في مجمله هذه الأيام يشكو ابتعاده التدريجي عن القيم الإنسانية ، والإنسان الغربي أصبح يبحث عن قلقه الروحي لسكن يأوي إليه ، فأخذ يبحث عن هذا السكن في الفن والموسيقى والأدب والرياضة ، لذا فهو في حالة استعداد دائم للاندماج في الثقافات الأخرى والبحث عن قشة سكينة في قرى أفريقيا وعادات الصين وعقائد المسلمين .
وحينئذ فإن تحكم المسلم في عاطفته المتورمة غضبا وحنقا على الغرب جراء ما تجرعه من ويلات ونكبات على طول هذا القرن ، وتجاوزه لبديهيات ردود الأفعال تجاه العدو المغتصب خلق نبوي ، سبقه إليه أكثر الرسل والأنبياء والفضلاء ، وسمو فوق الأنانية الفردية إلى التضامن الإنساني الخلاق ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل } . ( صحيح البخاري / كتاب : المرضى ) .
وفي رواية : { الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون } .
والحقيقة أن صبر المسلم هذه الأيام على القهر وعدم اليأس من الحوار والإقناع والجدال بالتي هي أحسن أمر ملجأ إليه ، فهو الحلقة الأضعف في موازين القوى اليوم ، لذا فليس له في هذه الظروف أن يكذب على نفسه ويتمسك بعنتريات مجوفة وشعارات مفرغة من محتواها .
بل عليه أن يستغل المتاح له من السبل للمطالبة بحقوقه بل وإقناع الآخرين بها ، وليتأكد أنه إن كانت هذه الأمور التي يؤمن بها جديرة بالاتباع والقبول فإنها ستثبت نفسها بنفسها .
نماذج من صبر الأنبياء في سبيل أقناع غيرهم :
نوح عليه السلام :
لقد دعا نوح عليه السلام قومه ألف سنة إلا خمسين عاما بلا كلل ولا ملل ولا يأس ، ومع ذلك كانوا يسخرون به وبدعوته ، قال تعالى :
{ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } : (هود /38) .
إبراهيم عليه السلام :
جرب إبراهيم عليه السلام أقصى أنواع التعذيب في مقابل محاولته لإقناع قومه أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فأضرمت له نارا عملاقة وطرح فيها بالمنجنيق .
عيسى عليه السلام :
كذبه قومه وناصبوه العداء وسخروا به ، حتى انتهى الأمر إلى محاولة صلبه ، لولا أن أنجاه الله برفعه إليه .
محمد صلى الله عليه وسلم :
قضى السنين الطوال يقنع قريشا بالتوحيد ، وهم يكذبونه ويؤذونه ويسخرون به ثم ذهب إلى أهل الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام فآذوه وضربوه فلما نزل عليه جبريل وعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين وهما جبلان يحيطان بالطائف فآثر النبي صلى الله عليه وسلم إمهالهم وعدم التعجل في أخذهم بذنوبهم أملا في أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله .
بالإضافة إلى قصة حبيب النجار التي جاءت في سورة يس ، حيث دعا قومه إلى عبادة الله فقتلوه ، فقيل : له ادخل الجنة ، قال : ياليت قومي يعلمون! فها هو حتى بعد أن كذبه قومه وآذوه ثم قتلوه يحمل هما إنسانيا خلاقا ويتحسر على أن قومه لم يهتدوا فيدخلوا الجنة مثله .
هذه الأمثلة من السمو الروحي الذي يرتفع بصاحبه فوق حظوظ النفس الفردية إلى الهم الجماعي الإنساني تؤكد قضية قبول حوار الأديان مع غض الطرف عن الممارسات الجارحة التي يقوم بها بعض منتسبي هذه الأديان ، طمعا في إشاعة الحق والسلام والنور .
كما أن الإسلام قرر هذا المبدأ على العموم ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في شأن أهل الكتاب بقوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } : (النحل/125) .
وقال تعالى : { قُل يا أهلَ الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألّا نعبد إلا الله ولا نُشركَ به شيئاً } : (العمران/64)
وبالطبع لا يعني هذا قبول كل الحوارات بلا تمحيص ، فأحيانا لا يكون من حوار الأديان إلا اسمه ، فقد يستغل المسمى لتمرير بعض القضايا التي هي أبعد ما تكون عن حوار الأديان وإن كانت تحمل اسمه .
وفي قطر فإن هناك مؤتمرا سنويا لحوار الأديان ، أنهى إلى الآن سنته الخامسة ، وقد يتساءل البعض عن منجزات هذا المؤتمر السنوي وكل المؤتمرات الشبيهة في الدول الأخرى ، لكن الناظر بعمق سيعرف أن مثل هذه المؤتمرات تسير ببطء ، لكنها تسير ، وبطئها ناتج عن تكالب الأفكار الأخرى التي تستبعد فكرة الدين خارج إطار الحياة ، لذا فيتأخر نضوج ثمار هذه اللقاءات .
خلاصة الموضوع :
حوار الأديان كفكرة عامة ، لا أظن أن هناك من يعترض عليها ، إنما تأتي الاعتراضات على تحقيق شروط الحوار ، وتوقيت الحوار ، وتنبع هذه الاعتراضات في مجملها من مسألة الشك في جدية هذه الحوارات وموضوعيتها ، فالدكتور محمد عمارة وهو من أبرز المفكرين الإسلاميين الذين تفاءلوا باكرا بقضية حوار الأديان رجع عن تفاؤله مؤخرا وألف كتابا يندم فيه على ضياع سنوات عمره في هذه الأكذوبة .
لكن لا يزال هناك متسع لمن يريد مخالفة الدكتور عمارة بحجة أن اليأس والقنوط واستعجال النتائج ليس بمنهج علمي ، كما أن المنهج الإسلامي الخالد جاء بعكس هذا مشجعا الحوار والجدال بالتي هي أحسن .
كتبت هذا الموضوع دعوة للنقاش ، فبتداول الأفكار تتضح بعض المسائل الإشكالية .
ومرجع هذا الاختلاف هو سعة “حوار الأديان” من حيث المفهوم والتناول والأهداف .
فحوار الأديان قد يأتي منصبا على القضايا الدينية التي تختلف فيها الأديان ، مثل قضايا الألوهية في الجانب العقدي ، وقضايا الرسل وقضايا الكتب السماوية ، ومثل قضايا العلمانية وعلاقة الدين بالسياسة ، وقضايا الواقع المعاش وعلاقات الشعوب ببعضها وحرية التعبير والعقيدة .
وقد يأتي للاتفاق على قضايا مشتركة أو مناقشتها ، كمحاربة الإرهاب بكافة أشكاله مثل قتل الأبرياء والمدنيين والمسالمين ، وتدمير المنشآت العامة ، والاحتلال العسكري للدول .
أو منع القتل بكافة أشكاله كالموت السريري والقتل الرحيم والإجهاض .
أو إدانة التطاول على الديانات والرسل والأنبياء والمسائل المقدسة .
كما قد يأتي حوار الأديان لمناقشة مسائل آنية بعينها ، كما لو أقيم مؤتمرا لحوار الأديان يناقش قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد يأتي أيضا لتمرير أهداف سياسية .
أما من نحيث المتحاورين فقد يكون المتحاورون رجال دين يمثلون الأديان المتحاورة ، وقد يكونون أكاديميين ، وقد يكونون ناشطون في المجال الإنساني، وقد يكونون خليطا من هؤلاء .
وقد يأتي حوار الأديان مقصورا على ديانتين سماويتين كالإسلام والنصرانية ، أو ثلاث ديانات سماوية ، أو أكثر من ذلك بإدخال بعض الأديان الموضوعة .
كما قد يقتصر حوار الأديان على إقليم معين أو بلد معين أو دوليا عاما .
هذه التنوعات هي ما تخلق البلبلة في الرؤى والتناول ، مما قد يحدو بالبعض إلى رد حوار الأديان برمته ، أو قبوله برمته ، أو الوقوف وقفة المتوجس المرتاب .
والناظر بهدوء في قضية حوار الأديان يجد أنها قد تكون مفيدة في هذا العصر المخيف ، بل قد تشتد الحاجة إليها إلى درجة الوجوب ، بعد أن طغت الآلة على الإنسان مؤخرا ، وابتلع الجشع المادي النقاء الروحي ، وتجرأ العقل على غيبيات الكون ، وتطاول الإنسان على خالقه .
الغرب في مجمله هذه الأيام يشكو ابتعاده التدريجي عن القيم الإنسانية ، والإنسان الغربي أصبح يبحث عن قلقه الروحي لسكن يأوي إليه ، فأخذ يبحث عن هذا السكن في الفن والموسيقى والأدب والرياضة ، لذا فهو في حالة استعداد دائم للاندماج في الثقافات الأخرى والبحث عن قشة سكينة في قرى أفريقيا وعادات الصين وعقائد المسلمين .
وحينئذ فإن تحكم المسلم في عاطفته المتورمة غضبا وحنقا على الغرب جراء ما تجرعه من ويلات ونكبات على طول هذا القرن ، وتجاوزه لبديهيات ردود الأفعال تجاه العدو المغتصب خلق نبوي ، سبقه إليه أكثر الرسل والأنبياء والفضلاء ، وسمو فوق الأنانية الفردية إلى التضامن الإنساني الخلاق ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل } . ( صحيح البخاري / كتاب : المرضى ) .
وفي رواية : { الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون } .
والحقيقة أن صبر المسلم هذه الأيام على القهر وعدم اليأس من الحوار والإقناع والجدال بالتي هي أحسن أمر ملجأ إليه ، فهو الحلقة الأضعف في موازين القوى اليوم ، لذا فليس له في هذه الظروف أن يكذب على نفسه ويتمسك بعنتريات مجوفة وشعارات مفرغة من محتواها .
بل عليه أن يستغل المتاح له من السبل للمطالبة بحقوقه بل وإقناع الآخرين بها ، وليتأكد أنه إن كانت هذه الأمور التي يؤمن بها جديرة بالاتباع والقبول فإنها ستثبت نفسها بنفسها .
نماذج من صبر الأنبياء في سبيل أقناع غيرهم :
نوح عليه السلام :
لقد دعا نوح عليه السلام قومه ألف سنة إلا خمسين عاما بلا كلل ولا ملل ولا يأس ، ومع ذلك كانوا يسخرون به وبدعوته ، قال تعالى :
{ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } : (هود /38) .
إبراهيم عليه السلام :
جرب إبراهيم عليه السلام أقصى أنواع التعذيب في مقابل محاولته لإقناع قومه أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فأضرمت له نارا عملاقة وطرح فيها بالمنجنيق .
عيسى عليه السلام :
كذبه قومه وناصبوه العداء وسخروا به ، حتى انتهى الأمر إلى محاولة صلبه ، لولا أن أنجاه الله برفعه إليه .
محمد صلى الله عليه وسلم :
قضى السنين الطوال يقنع قريشا بالتوحيد ، وهم يكذبونه ويؤذونه ويسخرون به ثم ذهب إلى أهل الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام فآذوه وضربوه فلما نزل عليه جبريل وعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين وهما جبلان يحيطان بالطائف فآثر النبي صلى الله عليه وسلم إمهالهم وعدم التعجل في أخذهم بذنوبهم أملا في أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله .
بالإضافة إلى قصة حبيب النجار التي جاءت في سورة يس ، حيث دعا قومه إلى عبادة الله فقتلوه ، فقيل : له ادخل الجنة ، قال : ياليت قومي يعلمون! فها هو حتى بعد أن كذبه قومه وآذوه ثم قتلوه يحمل هما إنسانيا خلاقا ويتحسر على أن قومه لم يهتدوا فيدخلوا الجنة مثله .
هذه الأمثلة من السمو الروحي الذي يرتفع بصاحبه فوق حظوظ النفس الفردية إلى الهم الجماعي الإنساني تؤكد قضية قبول حوار الأديان مع غض الطرف عن الممارسات الجارحة التي يقوم بها بعض منتسبي هذه الأديان ، طمعا في إشاعة الحق والسلام والنور .
كما أن الإسلام قرر هذا المبدأ على العموم ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في شأن أهل الكتاب بقوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } : (النحل/125) .
وقال تعالى : { قُل يا أهلَ الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألّا نعبد إلا الله ولا نُشركَ به شيئاً } : (العمران/64)
وبالطبع لا يعني هذا قبول كل الحوارات بلا تمحيص ، فأحيانا لا يكون من حوار الأديان إلا اسمه ، فقد يستغل المسمى لتمرير بعض القضايا التي هي أبعد ما تكون عن حوار الأديان وإن كانت تحمل اسمه .
وفي قطر فإن هناك مؤتمرا سنويا لحوار الأديان ، أنهى إلى الآن سنته الخامسة ، وقد يتساءل البعض عن منجزات هذا المؤتمر السنوي وكل المؤتمرات الشبيهة في الدول الأخرى ، لكن الناظر بعمق سيعرف أن مثل هذه المؤتمرات تسير ببطء ، لكنها تسير ، وبطئها ناتج عن تكالب الأفكار الأخرى التي تستبعد فكرة الدين خارج إطار الحياة ، لذا فيتأخر نضوج ثمار هذه اللقاءات .
خلاصة الموضوع :
حوار الأديان كفكرة عامة ، لا أظن أن هناك من يعترض عليها ، إنما تأتي الاعتراضات على تحقيق شروط الحوار ، وتوقيت الحوار ، وتنبع هذه الاعتراضات في مجملها من مسألة الشك في جدية هذه الحوارات وموضوعيتها ، فالدكتور محمد عمارة وهو من أبرز المفكرين الإسلاميين الذين تفاءلوا باكرا بقضية حوار الأديان رجع عن تفاؤله مؤخرا وألف كتابا يندم فيه على ضياع سنوات عمره في هذه الأكذوبة .
لكن لا يزال هناك متسع لمن يريد مخالفة الدكتور عمارة بحجة أن اليأس والقنوط واستعجال النتائج ليس بمنهج علمي ، كما أن المنهج الإسلامي الخالد جاء بعكس هذا مشجعا الحوار والجدال بالتي هي أحسن .
كتبت هذا الموضوع دعوة للنقاش ، فبتداول الأفكار تتضح بعض المسائل الإشكالية .