--------------------------------------------------------------------------------
الأمثال..كل ما تبقى من حكايا الزمن الجميل
عمر المالكي
"شام" فتاة صغيرة تذهب إلي مدرستها، وتغني لصديقاتها أجمل الأغاني الدمشقية القديمة، كما أنها تحفظ قصصاً قصيرة وعدداً من الأمثال الشعبية، والمصدر جدتها السيدة "امتثال الباني" (أم عماد)، التي عرفت في حّيها، بأن جعبتها مليئة بالأغاني والحكايا اللطيفة عن التراث الدمشقي النادر.
"أم عماد" استقبلت "eSyria" بتاريخ 1\11\2009 في منزلها الكائن بحّي "التجهيز"، وبدأت بقولها: «كنت أنا وأخوتي نقضي الليالي الطويلة بجانب جدتي، فتغني لنا الأغاني، وتحكي لنا القصص، قبل أن ننام في حضنها الدافئ، أغنيتان لا تفارقان ذاكرتي كانت جدتي تنشدها لنا:
(يا باح يا باح/ يا أيدين التفاح/ يا أيدين ظراف مناح/ قام العصفور ليتوضى/ وقع خاتمو الفضة/ هي معلقتو/ وهي صحنو/ وهي شوكتو/ شيخ كبير بيشرق مرقة/ ودب الليلة وهون بنام)، أما الثانية فكانت تقولستي الداية/ طبختلي كوساية/ حطيتها عالبحرة لتنشف/ أجى العصفور ونأرا/ ألتلو كش؟/ ألي يسلملي هالوش).
"أم عماد" تزوجت في "حّي الساروجة"، ثم عادت مع زوجها إلى "التجهيز"، لتنتقل مؤخراَ إلى "حّي الشام الجديدة"، فهي تنقلت بين أحياء دمشق مختلفة وعايشت مجتمعات متعددة، وعن الاختلافات والفوارق التي شعرت بها أثناء تنقلها بين تلك الأحياء، وخصوصاً فيما يتعلق بالجلسات النسائية، والأحاديث المتداولة فيها، أجابت "أم عماد": «في عرف أهل الشام عادات كثيرة كانت سائدة، منها على سبيل المثال مجالس الاستقبال عند كل مناسبة، فعندما يحدث زفاف، يأتي أهل العروس (أخواتها، خالتها وعماتها..) ويجلسون في بيتها سبع أيام بلياليها، يقضون أوقاتهم بالحديث وغناء وتبادل النهفات والقصص»، وتتابع "أم عماد" قولها: «إن هذه الجلسات تكون أحياناً جامدة، فيبدأ الضيوف أو الأهل البيت بذكر قصة طويلة، ويبدأ حولها النقاش بداية الأمر، ثم تتحول الجلسة إلى جلسة تلقائية وتتجه القصص نحو الفكاهة والقصص الغريبة، وقد تصل أحياناً إلى قصص الجن ومكائد النساء، وحتى الأساطير القديمة، ومن هذه شام تسمع من جدتها الألحان النادر القصص، قصة طريفة كنت أسمعها كثيراً، تقول:
(كان في يوم من الأيام، بنت فاتنة بجمالها، قوية بلسانها، وفي أحد الليالي حضرت أحد الأعراس، وعند خروجها من العرس باتجاه بيتها عند أذان الفجر – حسب العادات السائدة في ذلك الوقت-، وكانت تلبس أبهى حلة ومتزينة بالذهب واللولو، فإذا بشاب وقعت عينه عليها قبل أن تنزل الغطاء، فما استطاع إلا أن يقول: «وزيناها للناظرين»، فقالت له من تحت الحجاب: «وحفظناها من كل شيطان رجيم»، فأعجب بجوابها وقال: «نريد أن نأكل من ثمرها؟»، فردت عليه بحياء: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»، فقال الشاب: «والذين لا يملكون شيئاً؟»، فرّدت بسرعة: «أولئك عنها هم المبعدون»، فسكت قليلاً وقال: «ألا لعنة الله على النساء أجمعين»، فرّدت عليه: «وللذكر مثل حظ الاثنيين»).
جارة "أم عماد"، السيدة "باسمة النفاخ" من السيدات التي تكثر من حضور الواجبات الاجتماعية في الحّي، وقد حدثتنا عن الضيافة التي كانت تقدم في مثل هذه الإجتماعات: «الضيافة في هذه الاستقبالات كانت عبارة عن فنجان قهوة وسكّرة أو ملبسة ملفوفة بورقة، هذه الورقة مكتوب عليها حكمة أو مثل أو حزورة»، وتكمل السيدة باسمة: «في الواقع هذه الألغاز والحكم، كانت تعبر عن قوة أصحابها وخبراتهم أمام بقية الحضور، فعندما يأتي الضيوف تقدم لهم القهوة ثم السكاكر الملفوفة بهذه الأوراق، فتسارع كل من النساء الموجودات بفتح الورقة وقراءة الحظ أو الحكمة أو الحزورة الموجودة، أما إن كانت امرأة أمية "لا تعرف القراءة أو الكتابة" تستعين بامرأة أخرى لقراءة الورقة عنها، وكانت السيدة باسمة النفاخ تعرف بعض السيدات بهذه الألغاز، ولا يخلو مجلس الاستقبال من واحدة أو اثنتين منهن على أقل تقدير».
السيدة "باسمة النفاخ" لم تبخل علينا، وكتبت لنا أوراق تشبه تلك التي كانت تستعمل في المجالس النسائية، فكتبت لنا حزورة "القهوة": (أنا سمرة أنا غمرة/ أنا غبرتي بتطلع على صحني/ ألي فورات وألي نفرات/ لكني مشروب الأمرة والسلاطين...القهوة)، وبعض الحِكَم: (القناعة كنز لا يفنى)».
وأشارت السيدة "باسمة النفاخ" إلى مصدر الأمثال بقولها: «معظم الأمثال الشامية هي عبارة عن معنى وخلاصة للقصص والحكايا المتداولة، فعندما تذكر إحدى القصص يبدأ الحضور بذكر الأمثال المناسبة لنهايتها، وينتشر بعدها المثل على لسان الحضور، لذلك تلاحظ أن كل حّي من الأحياء "دمشق" لديه الأمثاله الخاصة به».
الأغاني العائلية وأغاني "الجدة" أبرز الغائبين عن ثقافة البيت الدمشقي الحديث، حسب رأي السيد "عماد الصبح" الأبن الوحيد للسيدة "أم عماد"، والذي تابع قوله: «كنت أردد تلك الأغاني أنا وأخوتي على مائدة الطعام، وفي غرفة النوم، ومازالت تلك الألحان الناعمة محفورة في ذاكرتي إلى اليوم، خاصة أنني أعرف الكثير من أصدقائي يحفظون مثل تلك الأغنيات، ولكنهم الآن لا يعلمون كيف ينقلونها إلى أبنائهم»، "أم عماد" غّنت مع حفيدتها "شام" إحدى تلك الأغاني الطريفة والتي تبدأ:
«طم طم/ جرس مدرستي سامعته عم يرن/ إن شاء الله بيتكسر/ ويصير صوتو بيعمل خم/ أختي تفيقني/ وعلى ظهري دقني/ وماما قاعدة جنبي/ عم تملقني/ قومي يا ستي/ قومي يا عيوني/ حبابة أمك/ حاجة تشكي وتنوحي/ يالله عمدرستك/ يالله روحي/ بلبس كلساتي/ بالميغيطة – مطيطة/ وما بلبس بوطي/ إلا بقتلة وعيطة..».
وعن سبب اختفاء هذه الأغنيات والقصص المسلية، تجيب "أم عماد": «إن أموراً كثيرة تغيرت ودخلت حياتنا، كالتلفاز مثلاً؛ وتفضيّل العائلات والنساء بشكل عام، السكن في بيوت صغيرة خارج العائلة، وبالتالي أصبحت الجدة بعيدة عن أحفادها ولا تستطيع دائماً إخبارهم بالقصص الكثيرة الموجود في جعبتها»، قبل أن نودعها، "أم عماد" فاجأتنا بشريط كاسيت يعود إلى عام \1962\؛ فأولادها قاموا حينها بتسجيل عدد من القصص والأمثال والأغاني التي كانت جدتهم تخبرهم بها، ومازال هذا الشريط يعمل إلى الآن.